في يوم ما وأنا خارج من باب عيادتي بعد أن استدعيت على عجل لأن قريبة عزيزة عليَّ جداً تحتضر، أحسست وأنا على عتبة الباب بألم عاصر أمسك بقلبي، وانتشر كالأخطبوط في جميع اتجاهات صدري حتى وصل إلى فكي، أدركت على الفور أن احتشاءً في العضلة القلبية قد حدث، ولكنني كنت في ظرف لا يسمح لي التصرف بمنطق طبي سليم، الذي يحتم علي في مثل هذه اللحظات التوقف عن كل جهد، واستدعاء الإسعاف، والدخول أسرع ما يمكن إلى غرفة العناية الفائقة.
أنا لست جاهلاً بما يجب عمله، كما أني لست مهملاً لأحوالي الصحية، والمعروف عني حرصي على الرياضة والغذاء المتوازن، ولكنني في موقف لا أستطيع التصرف به كما توجبه قواعد الطب.
تابعت مسيري، وبدلاً من ركوب سيارتي ركبت سيارة أجرة، وكان من سوء حظي أن السائق كان قد أصابه الملل ووجد بسكوتي الناتج عن ألمي فرصة كي يتكلم دون أن يقاطعه أحد.
لا أعرف كيف عرف بأني طبيب، وأخذ يلقي علي الأسئلة الطبية رشاً، ولا ينتظر الجواب فالمهم أن يتكلم ويسلي نفسه.
صبرت وسمعت حديثه طوال الطريق، ولم أجرؤ على الحديث معه، لأن أي محاولة للحديث أو الحركة كانت سبباً لمضاعفة الألم أضعافاً.
وبعد أن وصلت إلى مقصدي، صعدت إلى بيت القريبة، ودخلت غرفتها، ورأيت آثار قدرة الله في قهره لبني البشر، فاسترجعت وعزيت، ومكثت حوالي الساعة بانتظار حضور الأقارب والأصحاب، كي يخففوا شيئاً عن عائلة المتوفاة ويقفوا معهم في محنتهم، وعندها قد أتفرغ أنا لقلبي.
وعندما رأيت أن الظروف أصبحت ملائمة، طلبت من أخ عزيز اصطحابي إلى المشفى القريب من البيت الذي أنا فيه.
دخلت قسم الإسعاف، واصطف حولي أطباء أعزاء، وأجروا لي تخطيط القلب، ورأوا بأم أعينهم صرخات الاستغاثة التي يبثها قلبي مسجلة على أوراق التخطيط، قادوني مخفوراً إلى غرفة العناية الفائقة.
وهناك في حرم هذه الغرفة، بدأت عمليات غرز الإبر، وإعطاء الأدوية، وإنشاق الأكسجين، وإلزاق أشرطة التخطيط، فالكل في خلية نحل يعمل، والملك المكسور القلب يتلقى الخدمات وقلبه معلق بين السماء والأرض.
إن من يصاب باحتشاء في العضلة القلبية يصافحه الموت، وبعد ذلك وبحسب قضاء الله فإما أن يسحب الموت يده مودعاً إلى لقاء آخر، وإما أن يمسك ويتشبث باليد التي صافحها ويسيران معاً إلى رحمة الله.
لقد أبى الموت أن يظل مستمسكاً بي، فمواعيده ملأى، وأراد فقط أن يبرز مذكراً لي بأنه موجود، وبأنه يستطيع الحضور في أية لحظة فلأكن متهيئاً والزاد حاضر، وعندها لن أخشى السفر لأنها الرحلة التي نمضي العمر بانتظارها شئنا أم أبينا، فإن كان الاستعداد حسناً فالسفر ميمون بإذن الله.
ومضت الأيام وعدت إلى حياتي المعتادة، ولكن مع ندبة على قلبي تذكرني عند كل عمل أقوم به أن انتبه فأنا ندبة صغيرة لشريان صغير، ولكن تذكر فإن نقطة الدم التي تجمدت في هذا الشريان المتواضع قادرة على الوقوف داخل أي شريان، مهما يكن حجمه، ومهما يكن موضعه، ولربما في مرة قادمة لن تتح لك فرصة أن تكتب ما شعرت به، فاتقِ الله فيّ.