لمعالجة بالكي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
تحرق
الكاويات الأنسجة حيث تفقدها ماءها وتفكك الخلايا العضوية المركبة لها.
والكاويات الفيزيائية النار، والمعادن المحماة فيها، كالحديد المحمى حتى
درجة الأحمرار، والكاوي الحروريThermocautere ، والكاوي الكهربائي أو
الغلفاني . ومن الكاويات الكيميائية أو الأدوية الكاوية حمض الخل القابل
للتبلر، وحمض الآزوت، وحمض الكروم، وحمض الصفصاف، وقلم نترات الفضة (حجر
جهنم).
إن هذا البحث لا يشمل الكيَّ بالأدوية الكاوية ولا بالأدوية المنفطة
Vesicants كالثوم الذي استعمل مهروس لبَّه موضعياً في النقطة المراد
كيّها، تمهيداً لتطبيق حمض الكيّ المشهور عند العامة، والذي يقر الطب بعض
فوائده في بعض أنواع عرق النسا وبعض العصابات القطنية[1].
وأما الكيّ بالبرودة بواسطة حمض الفحم الثلجي، فهو طريقة حديثة نسبياً، تستخدم في الأمراض الجلدية، ولا تدخل في نطاق البحث.
وإنما نقصد الكيّ بالنار أو الحرارة، ولقد كان الأقدمون يجرون الكيّ
بقضبان حديدية مجهزة بقبضة خشبية (أو غير مجهزة ) ومنتهية بأشكال مختلفة
وبعد أن تحمى هذه القضبان على النار حتى تصير بلون أحمر مبيض أو أحمر
قاتم، تكون بها النواحي المختلفة.
وتختلف تأثيرات الكيّ بالنسبة لنوع المكواة ودرجة حرارتها، فالمكواة التي
تكون بلون أحمر مبيض يكون فعلها سريعاً، وعميقاً فلا تلتصق بالنسج التي
تكويها، بل تقطعها بسرعة ولا تقطع النزف و الألم المحدث بها أخف من
المكواة وهي في درجة الأحمرار القاتم، أما المكواة التي تكون بلون أحمر
قاتم ففعلها أقل عمقاً، ويلتصق بالنسيج التي تكويها وتخثر الآحينات، وتقطع
النزف ويكون الألم بها أشد[2].
وتختلف المكاوي في أشكال نهاياتها الكاوية وفي أحجامها بحسب مكان الكيّ
والغاية منه، فمن رام الإطلاع على أشكال المياسم القديمة المستعملة إبّان
حضارتنا، فهي مرسومة في باب الكي من كتاب( التصريف لمن عجز عن التأليف )
للزهراوي، ذلك الجراح العربي الإندلسي المشهور . وفي كتابه هذا فضل الكي
بالنار على الكي بالأدوية المحرقة ( أي الكاوية ).
ولقد تطورت المكاوي في عصرنا، فاستنبطت المكواة الحرورية لـ باكلان [3]
ولها نماذج مختلفة، ثم اخترعت المكواة الكهربائية [4]، وهذه أكثر تحكماً
فيها وأسهل استعمالاً ولا سيما في الأماكن العميقة .
واستعمل الكي لمداواة بعض الآلام العصبية المختلفة في التهاب العصب الوركي
والأعصاب الوربية فيستعمل لهذه الحالة الأخيرة الكي النقطي.
ولا يجوز استعمال الكي عند المصابين باستحالة العضلة القلبية وتصب
الشرايين، لأن الكي يرفع الضغط الشرياني وكذلك لا يجوز استعماله عند
الأشخاص المستعدين للغشي (الإغماء) .
هذا وإن الكي بالنار قد استعمل حتى يومنا هذا في باديتنا وريفنا، وإن قلّت
حوادثه، إما صرفاً وإما متبوعاً بوضع شيء على الكيَّة لتأخير برئها بقصد
استمرار سيلان اللنف منها، حتى يتخلص الجسم من أخلاطه السيئة ـ كما يظنون
ـ وتتنبه في العضوية وسائل الدفاع كما يقصد ذلك من استعمال حمضه الكي .
ويجدر بنا في هذه المقدمة، أن نستعرض بعض المعلومات اللغوية عن الكي قبل الخوض في صلب الموضوع .
قال في القاموس المحيط : كواة يكويه كياً : أحرق جلده بحديدة ونحوها، وهي
المكواة، والكية موضع الكي. والكاوياء ميسم . واكتوى استعمل الكي في بدنه،
وتمدح بما ليس فيه . واستوى طلب الكي.
وقال : الوسم أثر الكي جمعه وسوم. وسمّه يسمِه وسماً وسمة فاتسم. والميسم بكسر الميم المكواة بما ليس فيه. واستكوى طلب الكي.
وقال : الوسم أثر الكي جمعه وسوم. وسمّه وسماً فاتسم . والميسم بكسر الميم المكواة جمعه مواسم ومياسم .
وفي المختار : يقال آخر الدواء الكي، ولا يقال آخر الداء الكي.
مغالات الأعراب في المداواة بالكي :
لقد أكثر العرب قبل الإسلام من استعمال الكي كواسطة علاجية، ولا سيما من
قبل الأعراب سكان البادية، حيث تندر الأطباء والأدوية. ومن المتوقع عندما
تفشل الأدوية المجربة أو يفقد الدواء الناجع، أن يسعى المريض هو أو ذووه
للتخلص من مرضه، وأن يتقبلوا أي وسيلة، ولو كانت مشكوكة النتائج، ولو كانت
مؤلمة كالكي بالنار، ويزيدهم تقبلاً للكي أنهم يرون ويسمعون عن بعض
فوائده، ولو كانت بعض تلك الفوائد المشاهدة حادثة بطريقة المصادفة أو
نتيجة الإيحاء الغيري أو الذاتي بالاعتقاد . ولهذا وردت الحكمة الشعبية
العربية القائلة : (آخر الدواء الكي ) .
وبما أن الكي فيه ألم وشدة على مطبقيه، فقد جرت تلك الحكمة مجرى المثل
عندما يبت في أمر ما، ويحسم بالشدة بعد أن جرب فيه الرفق واللين، فيقال
لدى تطبيق الأمر الأشد : ( آخر الدواء الكي ّ)[5].
ولقد تخطيء العامة في تطبيق حكمة الكي حدود المعقولية، وغالوا في استعماله
وتوسعوا فيه شعبياً، وأصبح الكي يجري بتوسع من قبل غير الأطباء والخبراء،
ولمجرد رغبة المريض أو ذويه بذلك، أو وصف المتطيب الجاهل له، وأضحى الكي
ينفذ وقاية من مرض أو لتوهم أنه يحسم العلة ويمنع تفاقمها، أو لاعتقاد أن
الشفاء به يمنع النكس.
لقد توارث العامة، ولاسيما أهل البداوة، هذه المغالاة في استعمال الكي مع
الأخطاء في الاستطباب والتطبيق عبر العهود والعصور الغابرة حتى يومنا هذا
.
ولقد أشار إلى تلك المغالاة الجراح الزهراوي المتوفى سنة 500 هـ .
فقال في كتابه التصريف : ولايقع ببالكم يا بني ما توهمه العامة وجهالة
الأطباء، أن الكي الذي يبرئ من مرض ما، لا يكون لذلك عودة أبداً وتجعلوه
لزاماً، وليس الأمر كما ظنوا، وقال: وأما قول العامة أيضاً: إن الكي آخر
الطب فهو قول صوبا، لا إلى ما يذهبون هم، لأنهم يعتقدون أن لا علاج ينفع
بدواء ولا بغيره بعد وقوع الكي، والأمر بخلاف ذلك، وإنما معنى أن الكي آخر
الطب، إنما هو أننا متى استعملنا ضروب العلاج فينجع [6]، فمن هنا هنا وقع
أن الكي آخر الطب، لا إلى المعنى الذي ذهب إليه العامة وكثير من جهال
الأطباء أ هـ .
وما زلنا معشر الأطباء، نرى في زماننا أناساً من القبائل البدوية وممن
جاورهم من سكان الأرياف، قد أكتوى فلم يشف لوم يخفّ ألمه، بل ضم إليه
ألماً جديداً، وشوه بالكي جمال أعضائه الخلقي. وإن منهم من أصيب بالكزاز،
نتيجة تشغيله الكية بورقة قذرة قاصداً ما يبتغي من حمصة الكي .
موقف الرسول العربي من تلك المغالاة:
جاء الإسلام والمغالاة في استعمال الكي شائعة، يعرضون به أجسامهم لآلام
النار وتشويهها فيما لا جدوى منه، وما جاء من رسول إلا وكانت له القيادتان
الدينية والدنيوية، ومن مهام الدولة نشر مناهج الطب الوقائي، وتقنين
ممارسة المهن الطبية، ومكافحة الشعوذة والدجل في الطب وفي غيره.
فأبى رسول الرحمة والإنسانية أن يعذبوا أنفسهم بأوهام لا تنفع، فنهاهم عن
الكي وعن الأدوية الوهمية، ووضح لهم أن استعماله مشروط بموافقة للداء، أي
بوجود استطباب له .
ورغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن تعيد أمته النظر في استعمال
أدويتهم الشعبية، التي يمارسون تطبيقها دون استشارة طبيب، وأن يبعدوا عنها
المغالات، وأن يقتصروا في تطبيقها على مجالات معينة حيث تفيد، فنبههم إلى
أن الدواء، إنما يشفي بإذن الله تعالى، إذا وافق الداء، أي لابد من تشخيص
ولابد من اختيار دواء ملائم يستعمل بمقدار وبطريقة موافقين، فقال عليه
السلام : " لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله عز وجل " [7]
وأورد عليه السلام ذكر الأدوية الشعبية في زمانه، وهي الحجامة المدماة
والكي والعسل، فاعترف بأنها لها فوائدها، ولكنه نبه إلى أن استعمالها
طبياً، يجب أن يكون موافقاً للداء أي تابعاً لوجود استطباب، وكرر النهي عن
الكي والرقى ـ وهي المعالجة الروحية بالقراءات ـ وذلك لشدة الشطط في
استعمالها دون مبرر علمي .
1. روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال سمعت النبي صلى
الله عليه وسلم يقول : " إن كان في شيء من أدويتكم، أو يكون في شيء من
أدويتكم خير، ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لدغة بنار توافق الداء وما
أحبّ أن أكتوي" قال الحافظ ابن حجر في شرحه (توافق الداء) : فيه إشارة إلى
أن الكي إنما يشرع عندما يتعين طريقاً إلى إزالة الداء، وأنه لا ينبغي
التجربة لذلك ولا استعماله إلا بعد التحقق أ هـ .
يقصد : إن الضمير المستتر في كلمة توافق يجوز رجوعه إلى (لذعة بنار) أقرب
مذكور ويجوز رجوعه إلى الثلاثة (شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار) .
وهذه الرواية للبخاري هي أدق تعبيراً من الروايات الأخرى التي رواها هو أو غيره في هذا الباب .
2. وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "
الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن
الكي " قال ابن حجر : ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم الحصر في الثلاثة،
فإن الشفاء قد يكون في غيرها أهـ .
أي لم يرد النبي عليه السلام الحصر الحقيقي، وإنما قصد حصراً نسبياً أو
إضافياً يقصده المتكلم، ويستعمله في بيانه كأسلوب من أساليب البلاغة، لجذب
الانتباه إلى ما يقصده ويتكلم عنه ويتعلق به غرضه من ذلك البيان[8].
3. وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي وكان يكره شرب الحميم " [9] يعني الماء الحار.
4. وعن سعد الظفري (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكي، وقال : أكره شرب الحميم )[10].
5. وعن عمران بن حصين رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهى عن الكي ) قال : فابتلينا فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا[11]. وفي
رواية : (نهينا عن الكي ) .
قال الخطابي : قيل إنما نهي عمران خاصة عن الكي، لأنه كان به ناصور، وكان
موضعه خطراً فنهاه عن كيه، فيشبه أن يكون النهي منصرفاً إلى الموضع المخوف
منه والله أعلم [12] وبهذه المناسبة أذكر أن الزهراوي ذكر في كتابه
(التصريف) معالجة بعض نواسير المقعدة بالكي مع احتمال عدم الاستفادة .
إن النهي عن الكي في الأحاديث السابقة، ليس على عمومه وإطلاقه، فقد وردت
أحاديث نبوية سنراها تفيد استعمال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه للكي،
فالنهي منصبّ على الاستعمال الشعبي المغالي في تطبيقاته، دون وجود
استطباب، ولذا قال ابن حجر في فتح الباري: ويؤخذ من الجمع بين كراهته صلى
الله عليه وسلم للكي وبين استعماله، أنهلا يترك مطلقاً ولا يستعمل مطلقاً،
بل يستعمل هذا التفسير يحمل حديث المغيرة رفعه " من اكتوى أو استرقى فقد
برئ من التواكل " أهـ .
وفي التعقيب على عنوان عقدة البخاري بقوله : ( باب من اكتوى أو كوى غيره
وفضل من لم يكتو) . قال ابن حجر : كأنه أراد أن الكي جائز للحاجة، وأن
الأولى تركه إذا لم يتعين [13] وأنه إذا جاز كان أعمّ من أن يباشر الشخص
ذلك بنفسه أو بغيره لنفسه أو لغيره، وعموم الجواز مأخوذ من نسبة الشفاء
إليه في أول حديثي الباب، وفضل تركه من قوله عليه السلام : " وما أحب أن
أكتوي " أ هـ .
وقال المازري [14] : وقوله عليه السلام : " وأنا أنهى أمتي عن الكي " وفي
الحديث الآخر : " وما أحب أن أكتوي " إشارة إلى أن يؤخر العلاج به، حتى
تدفع الضرورة إليه،ولا يوجد الشفاء إلا فيه، لما فيه من استعمال الألم
الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي أ هـ .